«الحداثة» والاحتلال

كنت أحدّث صديقاً منذ فترة عن مشاهداتي في غرب الصين ومجتمع الكازاخ فيها، فكانت له ملاحظةٌ مثيرة. فلنرجع بدايةً خطوةً الى الوراء: لقد زرت خمس مدنٍ مختلفة في أرجاء الصين خلال أسبوعين، أي أنني كما يقول الأميركيون «لم أخدش السطح» حتّى في التعرّف على بلدٍ هو فعلياً عبارةٌ عن قارّة، ولكن أتيح لي خلالها بعض التجارب المميّزة. مديرية تاتشنغ، مثلاً، هي تقريباً أبعد مكان يمكن أن تذهب إليه في الصّين. هي في «زاويةٍ» تقع شمال غرب البلاد، أو «نتوءٍ» جغرافي يفصل بين الصين وكازاخستان ومنغوليا.
الحدود الدولية مع كازاخستان هي حرفياً أمامك، تبعد كيلومترات قليلة عن الفندق، وهاتفك يقفز باستمرار الى الشبكة الكازاخية. مدنٌ روسية مثل أومسك ونوفوسيبيرسك، أو الآستانة عاصمة كازاخستان، هي أقرب مسافةً إليك بكثير من «لانجو»، آخر مدينة صينية كبيرة تلاقيها في الطريق الى الغرب. هذه الهوامش الحدودية هنا هي الموطن الأساسي للأقلية الكازاخية في الصين، وأنت بوضوحٍ في وسط آسيا، لا شيء حولك سوى سهوبٍ تمتدّ بلا نهاية تحت قبّة سماوية زرقاء، وفي آخرها ترتفع «جبال السماء»، القمم المقدّسة لدى أقوام أوراسيا البدويّة - وقد كان حلمي منذ زمنٍ أن أزور هذا الجزء من العالم.
مدينة تاتشنغ في ذاتها صغيرة، لكنها من «أغرب» المدن التي سوف تراها في حياتك: خليطٌ فريد، في العمارة والجماليات والمطبخ والوجوه، بين الصين وروسيا وآسيا الوسطى، وسوف تلاقي فيها مشاهد وأمزجة تبدو من خارج المكان والزمان. توقفنا مرّةً، على سبيل المثال، في المدينة، وإذا بي أجد نفسي حرفياً أمام ما لا يمكن أن نسمّيه إلا «مول سوفياتي». هل تعرفون الصورة النمطية، من الوثائقيات، عن مراكز التسوق في موسكو في الثمانينيات؟ هذا هو بالضبط: مبنى باطوني «عملي» ثقيل، هندسة معمارية «وحشية»، نجمة حمراء كبيرة على الواجهة مع كتابات بالأبجدية الروسية (أنت لم تعد ترى مثل هذه الأمور في الصين اليوم). وداخل المبنى ما يشبه البازار، كلّ زاويةٍ فيه يحتلها «تجار شنطةٍ» صغار يبيعون بضائع وسلعاً من العالم «ما بعد السوفياتي»: شوكولا روسيّة، نبيذ من جورجيا، وماركات كحول وسكاكر غربية جيء بها عبر الحدود القريبة.
ولكن التجربة الحقيقية تبدأ حين تخرج من المدينة الى الريف اللامتناهي. تسير بسهولةٍ لخمسين أو مئة كيلومتر بين القرية والأخرى. رأيت حقولاً زراعية هائلة، ومزارع ضخمة تنتج الأغنام التي يزداد استهلاكها باطرادٍ في الصين (تقليد شواء لحم الغنم على طريقة شينجيانغ، التي تشبه مشاوينا، أصبح من الأطعمة المفضلة عند الصينيين وانتشر في كل مدن البلاد).
الكثير من هذه القرى كان أهلها بدواً رحّلاً الى زمنٍ غير بعيد، ولا تزال نشاطات الرعي وتربية الخيول منتشرة عندهم. بالمناسبة: على الرغم من أني كنت أقول لنفسي في الصين إنّي مجرّد ضيفٍ زائر، شؤونهم هي شؤونهم، وإني لم آتِ الى هنا لكي أتوسّط بين الاثنيات، ولكن لن أخفيكم أني قد أحببت الكازاخ وأحبّوني. من السهل عليك كعربي أن تجد الكثير من المشتركات مع شعوب وسط آسيا، في العادات والكرم، وأسلوب الحياة والمأكل، وغير ذلك - ولا ننسى أننا كلنا في الأصل أهل خيام ورعي. وعلى ذكر الخيام، أنا عندي اهتمامٌ قديم بال»يورت» المغولي، خيمة اللباد الأبيض التي تمثل تراثاً مشتركاً لكلّ شعوب السهوب.
هي حقيقةً عبارة عن أداةٍ تكنولوجية مبتكرة، سمحت لهذه العشائر بحياة من الترحالٍ في أصعب الظروف المناخيّة، وبأن يقضوا شتاءهم وسط العواصف والثلوج وهم في حالةٍ من الدفء والترف والراحة (على الهامش: شراهة المغول وغيرهم من البدو لقماش الحرير، واستحواذهم على كميات كبيرة منه من الصين، كان لأسباب عمليّة أيضاً. الحرير عازلٌ ممتازٌ للحرارة، وهو خفيفٌ للغاية يوضع بين طبقات الثياب، فيصبح ضرورةً لمن يريد الحركة والقتال في صقيع منغوليا وسيبيريا).
وحين جلست في «يورت» تقليدي للمرة الأولى، فهمت لماذا طالما احتقر البدو حياة البيوت الحضرية، وكانوا يعدّونها شظفاً وكآبةً وسجناً (في قرى الكازاخ الذين وطّنوا حديثاً، تجد أنهم كثيراً ما يقيمون خيمة «يورت» بجانب بيتهم القروي الجديد، متصلةً به، لتكون هي صالة الاستقبال والجلوس). كان معنا مصوّرٌ من القومية الكازاخية لم أتمكّن من أن منع نفسي من أن أقول له، حول كأس شايٍ بالحليب داخل «يورت» وثير، إن الأمر الوحيد المؤسف هو أنّه قد جاء في عصرنا هذا، وليس قبل ستة قرون - وهو ما قد ينطبق الى حدٍّ بعيدٍ علينا أيضاً.
خرجت في لبنان منظمات سياسية تعرّف عن نفسها بوضوحٍ أنها «نخبوية»، وأنها لا تنظّم فئات شعبية، بل تمثّل رأس المال الدولي، وأعضاؤها هم من المغتربين «الناجحين»، وقد عيّنوا وزراء في الحكومة الحالية أكثر من أيّ حركة شعبية لبنانية
هذه المقدّمة كلها حتى نصل الى الفكرة الأساس، إذ قال الصديق ما معناه: هل ترى هؤلاء الناس؟ حتى الذين يسكنون الخيام، في أكثر بقعة نائية في العالم؟ هم يعيشون معنا في الزمن نفسه، وفي عصرنا المعولم ذاته. لم يعد أحدٌ اليوم خارج «الحداثة»، حتى أهل السهوب في وسط آسيا، وأحياء الصفيح في لاغوس، كلهم يعيش في «الآن وهنا «(the here and now)، كلٌّ بنسخته الخاصة من الحداثة المعولمة. تذكّرت هنا أنّ راكب الخيل في سهوب الصين كان يحمل هاتفاً ذكياً، عليه «وي تشات» و»علي باي»، أصبحت تجد «يورت» موصولاً بمكيّفٍ لتبريده في فصل الصيف، وتلاقي وسط هذه السهول، على الطريق الطويلة الفارغة، نقاطاً لشحن السيارات الكهربائية.
أبوابٌ كثيرة
النقطة النظرية هنا هي أنّه يجب أن نميّز بين مفهومين عن «الحداثة»، الحداثة بالمعنى الجوهراني، أو الحداثة كإيديولوجيا، حيث تصبح مفهوماً محدّداً له ما يشبه دفتر الشروط، وبين الحداثة باعتبارها حالة وجود وحالة تاريخية اندمجنا فيها بأشكالٍ وصورٍ مختلفة. مشكلة المفهوم «الجوهراني»، الذي تجده في مدرسة التحديث والاستشراق الجديد، أنّها تختلق ثنائيةً زائفة بين قطبين متخيّلين، واحد اسمه «الحداثة»، والثاني هو «التقليد»، ويحوّلها الى أقانيم جامدة، كأن في وسعك أن تعبر - فيزيائياً - بين الواحد والآخر (وهي نظرة هيمنت على تفكير أجيالٍ من المثقفين العرب). من هنا أيضاً تأتي إيديولوجيا «رفض الحداثة»، حيث ترى الحداثة «سلعة» أو جسماً خارجياً، يمكن أن ترفضه أو تنعزل عنه أو تعود الى ما قبله. أما المفهوم الذي نستخدمه هنا فهو الحداثة باعتبارها حالة معاشة، «الحداثة اليومية» كما يختبرها كلّ أهل الأرض، والقصص المتنوّعة لاندماجنا فيها.
في الدراسات ما بعد السوفياتية، يلوم العديد من المؤرخين «المراجعين» الأدبيات القومية السائدة في دول مثل جورجيا وأوكرانيا وغيرهما، والتي تنظر الى المرحلة السوفياتية باعتبارها محض احتلالٍ واستبدادٍ وقمعٍ للهوية الوطنية. مسألة التراث السوفياتي، يقول هؤلاء، يجب النظر إليها مع بعض المسافة عن هذه الأحكام القيميّة الحادّة. الفكرة هي أنّ غالبية هذه الشعوب قد دخلت الحداثة للمرة الأولى عبر تجربتها السوفياتية، وهذه مسألة تكوينيّة لا يمكن أن تسلخها من تاريخك.
أجدادك وجدّاتك دخلوا المدارس، وانتظموا في مؤسسات دولة، وأصبحوا «مواطنين»، وهاجروا من الريف، ودخلوا سوق العمل وسكنوا الشقق، كلّ ذلك حصل للمرة الأولى في سياق «الحداثة السوفياتية» وبسببها. هذا لا علاقة له بالأحكام عن الحسن والسيء، وهو تاريخٌ وليس خياراً. حتى الأفكار القومية التي تشنّع على السوفيات اليوم، والنخب التي اعتمدتها، قد تطوّرت ونضجت ضمن هذه الحاضنة السوفياتية، وهي «ابنتها» بمعنى ما. هذا يشبه تماماً واقع أن حداثتنا، وبخاصة في المشرق، هي في أصلها «عثمانية»، اذ تعرّفت مدننا ومجتمعاتنا على العولمة للمرة الأولى خلال الحقبة العثمانية واندمجت أيامها في السوق الدولي.
وكلّ من حكم هذه المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية، بمن فيهم القوميون، كانوا من نتاج «الحداثة العثمانية» ومؤسساتها: مدارس الضباط، البيروقراطية، والكليات والإرساليات الأجنبية التي انتشرت بعد مرحلة التنظيمات (وحركة «الإخوان» المصرية نفسها، في بداياتها، كانت بمثابة «إعادة تنظيمٍ» لنخبة وفئاتٍ كانت صاعدةً في أواخر العهد العثماني، وتحاول الآن أن تتعامل مع حدث سقوط السلطنة).
في مكانٍ آخر، حين أنظر الى الصّور القديمة لعائلة أمّي، وهي تعود الى الخمسينيات والستينيات في صيدا، ينتابني دوماً شعورٌ بأني قد دخلت الى فيلمٍ مصريٍّ من أفلام الأبيض والأسود: أشكالهم، ملابسهم، تسريحات الشعر، الخلفيّة. حتى «السينماتوغرافيا» - وضعية جلوس الأمّ بين الأولاد - كأنها مأخوذةٌ من فيلمٍ مصريٍّ من تلك الحقبة. وهذا كان مشتركاً بين الكثير من عائلات المدن المسلمة في لبنان، وهو لم يكن بالصدفة.
مصر كانت البوابة الأساسية لهؤلاء الناس لبناء مفهومهم عن العالم العصري: الإذاعة والأفلام وأسلوب الحياة والموضة وعبد الناصر، هذه كلها كانوا يستوردونها من مصر. والعلاقة لم تكن معنوية وثقافية فحسب، بل كان لهم ارتباطٌ ماديّ مباشر بالبلد، يسافرون إليه ويدرسون في جامعاته بدلاً من جامعات لبنان، ولا يشجعون من السياسيين المحليين إلا من يحبّ عبد الناصر (فكرة أن أرستقراطيّاً تقليدياً مثل صائب سلام كان «ناصرياً»، فيما كان عبد الناصر يصادر أملاك أقرانه في مصر ويجرّدهم من ألقابهم). ولا ريب هنا في أنّ هذا التأثير المصري وقيمه «التقدمية» كان له دورٌ في تأليف قلوب الناس، عند الكثير من العائلات المحافظة، مع فكرة تعليم البنات ودخولهنّ سوق العمل - ثمّ بنى لهم عبد الناصر جامعةً في بيروت.
المشترك بين الكثير من عائلات المدن المسلمة في لبنان لم يكن بالصدفة، أن مصر كانت البوابة الأساسية لهؤلاء الناس لبناء مفهومهم عن العالم العصري: الإذاعة والأفلام وأسلوب الحياة والموضة وعبد الناصر، هذه كلها كانوا يستوردونها من مصر.
بالمعنى ذاته، يمكن أن نتكلّم عن «مرحلة خليجية» أرسيت بذورها منذ السبعينيات، وانطلقت بقوة في الثمانينيات، وأصبحت اليوم مهيمنة. جيلي تحديداً شهد مرحلة الصعود هذه وتعرّض لتأثيراتها منذ الطفولة، إذ إننا رافقنا هذا العصر الخليجي منذ بداياته وكنّا - بمعانٍ كثيرة - من أوائل «ضحاياه». أصبح من المسلّمات اليوم أن ما تبقّى من إنتاج ثقافي وإعلامي باللغة العربية يخرج أساساً من الخليج، أو هو من إنتاج رأس المال الخليجي. حين يستهلك الناس في المشرق أو مصر سلعةً ثقافية، أو يجلسون أمام التلفزيون، فهم في الغالب يتفاعلون مع المؤسسة الخليجية بدرجةٍ أو بأخرى.
وهذا ينطبق حتى على إنتاج المفاهيم السياسية والدينية، ونمط الحياة، والعادات التي رجع بها المغتربون من الخليج. الطريف هنا أنّ مصر نفسها، التي كانت المركز في المنطقة، كانت من أوّل من تأثّر مجتمعه بـ»الحداثة الخليجية» الناشئة. شرح لي باحثٌ مصريّ مرّة عن الأثر الطبقي لفكرة أن المرأة المحجّبة، في الثمانينيات، لم تعد بالضرورة المرأة «التقليدية»، بل هي أيضاً من يقود سيارة المرسيدس، أو تعود للإجازة من السعودية (وقد راجت «أشكال» جديدة من غطاء الرأس، «عصرية» وتشبه النمط الخليجي وتميّز نفسها عن اللباس التقليدي للطبقات الفقيرة). بالمناسبة، من أوائل رجال الأعمال الذين استدخلوا أنظمة الكمبيوتر الى السوق المصري في تلك الفترة كانوا إسلاميّين من «الجيل الثاني»، ومنهم خيرت الشاطر.
من هم دون الأربعين اليوم قد ولدوا وسط هذه المرحلة ولا يعرفون غيرها. أمّا نحن، فإننا نتذكّر على الأقلّ ما كان قبلها، وكيف ظهرت ثقافة الخليج وسادت. نحن نذكر - مثلاً - بداية دخول مجلّات الأطفال اللامعة، من الإمارات والسعودية والكويت، الى بلادنا في أواسط وأواخر الثمانينيات. الموضوع ليس تفصيلاً. هذه المجلّات كانت، بطبيعة الحال، تُصنع تحت إشراف المخابرات، ولكنها متقنة التصميم، وفيها أفضل الفنانين والرسامين، ورخيصة (اكتشفت أخيراً، بالصدفة، أن أحد أصدقائي كان مؤسس ورئيس نادي قرّاء مجلّة «ماجد»، وأصبحت أنظر إليه نظرة احترامٍ وحسد).
وبعضها أيضاً كان يترجم كوميكس أجنبية لا مثيل لها محليّاً وليست، على طريقة بعض دور النشر اللبنانية، لا تزال تنشر لنا أعداداً من الأربعينيات (تقرأ في الصحف اليومية أن بطلك الخارق قد مات في النسخة الإنكليزية، وانتهت السلسلة وخُتمت والناس حزانى، فيما هو بالعربيّة يكافح النازيين). الجانب الدالّ هنا هو أنّ هذه الحالة كانت مثالاً مبكراً عن «نموذجٍ» سيصبح سائداً ومهيمناً في العلاقة بين المركز والأطراف: أن تستخدم فنانين ومواهب من مصر وفلسطين وسوريا والعراق، «المادّة الخام»، وتشكّل بها سلعةً ثقافيّةً تخصّك.
النخبة الجديدة
الطريف في لبنان اليوم أن مفاهيم «الخبرة» و»الحداثة» أصبحت هي مصدر الشرعية عند السلطة الجديدة بعد الحرب. كلّا، نحن لم نقم باختبارٍ واخترنا أكفأ الناس وجعلناهم رؤساء، أميركا هي من اختارتهم وعيّنتهم. نحن نتكلّم عن رؤساء لا نعرفهم، ولم نسمع منهم يوماً خطاباً، الشيء الوحيد الذي نعرفه عنه هو أنه رجل أميركا في لبنان. والمسألة هي أن صفتهم هذه، باعتبارهم ممثّلين «مباشرين» للنظام الدولي، هي بالذات ما يتمّ الترويج له باعتباره مزية.
«واو، أنه يعمل في بووز، من تريد أفضل من ذلك ليحكمك؟»، «هل رأيت كم كتاباً كان حوله وهو جالسٌ يتلقى الأوامر والإرشادات من السفيرة الأميركية؟». الفكرة هي أنّ النظام الدولي لم يعد يعمل عبر وجوهٍ يتحالف معها من النخبة المحلية، بل أصبح يعيّن رجاله (ونساءه) مباشرة في مناصب الحكم، مفوّضين ساميين ولكنهم يحملون جنسية البلد (الى جانب الجنسيات الأخرى)، والبعض يعتبر هذا النمط من الحكم مكسباً للبنان، لقد دخلنا أخيراً في الحداثة بشكلها الأصلي، «الحداثة العليا «(high modernity)، وسوف يتمّ «تلقيحنا» بها عبر موظفي رأس المال الدولي ورجال السفارات.
القصّة هي انّه يجب أن تعرف العالم الذي عمل فيه هؤلاء الناس وخرجوا منه لكي تفهم لماذا هم، في الحقيقة، من أصغر وأسوأ أصناف البشر. الدوائر التي تعيش فيها هذه النخب المعولمة صغيرة، ومجتمعهم محصور وهم يعرفون بعضهم البعض. لا أحد من هؤلاء نال صوتاً في انتخابات أو حاز شرعية شعبية من أيّ نمط داخل البلد، ولكنّ صديقي - وهو ليس لبنانياً حتى، درس وعمل في الجو النخبوي ذاته - يعرف شخصياً اثنين أو ثلاثة من وزراء حكومتنا (ولم تكن لديه كلمة جيّدة يقولها عن أيٍّ منهم).
وأنا نفسي، لو بقيت أعمل وسط هؤلاء الناس ولم أخرّب حياتي وأصبح كاتباً، لكانت فرصتي بمعرفتهم شخصياً - وأنا في الغرب - أكبر بكثير من أي مواطن أو ناشط لبناني. يقال أحياناً إن النظام المدرسي ليس هدفه نقل المعرفة أو اختيار الطلاب الأكثر ذكاءً، بل تحديد الطلاب الأكثر قابلية للامتثال (النجاح المدرسي عملياً هو أن تنضبط وتدرس كما تؤمر، أن تقوم بواجباتك وتعيش وتنظم أولوياتك كما تريدها المؤسسة). وهؤلاء الموظفون الدوليون هم الإثبات الحيّ على تلك النظرية، حيث طريق النجاح، الذي يصقل الشخصية، يمرّ بأن تكون مطيعاً وانتهازياً و»مديوكر» (مرة في الماضي، كنت أناقش أستاذاً في خطةٍ بحثية، فقلت له «ولكن إن فعلت كل هذه الأمور معاً، فسيكون العمل «مديوكراً»، فنظر اليّ بكلّ جدية وقال: إياك أن تستهين بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه في الحياة عبر أن تكون مديوكراً).
في السنوات الأخيرة، خرجت في لبنان منظمات سياسية تعرّف عن نفسها بوضوحٍ أنها «نخبوية» وأنها لا تنظّم فئات شعبية، بل تمثّل رأس المال الدولي في لبنان، وأعضاؤها هم من المغتربين «الناجحين» (شيء اشتراكي وانساني للغاية، أقول لكم). هؤلاء قد عيّنوا وزراء في الحكومة الحالية أكثر من أي حركة شعبية لبنانية. وهنا دينامية طريفة أصبحت تجدها في الكثير من دول الجنوب، حيث يحصل انقسامٌ وتنافس ضمن المعسكر الغربي نفسه، وتحديداً بين النخب المحلية التي كانت الوسيط التقليدي لمصالح الغرب في البلد، وبين هذا النمط الجديد من الوجوه التي ترتبط مباشرةً بالنظام الدولي ولا تحتاج الى مظلّة الحريري أو «القوّات».
لا أعرف ماذا يمكن أن نسمّيه، صراع بين الأوليغارشيا والكومبرادور؟ أو بين الكومبرادور الجديد والكومبرادور القديم؟ والفئة الأولى تتهم الثانية بأنها فاسدة ورجعية و»دقة قديمة»، لا تناسب الحداثة المعولمة ولا تصلح لتنفيذ مهام «المجتمع الدولي»، والتقليديون بالمقابل يقولون عن الوجوه الجديدة إنهم إمّعاتٍ لمن يدفع، ومنحلّون يريدون إفساد المجتمع، و»سوروسيّون» (في حالاتٍ كثيرة، لا ننسى، يمكن للطرفين أن يكونا على حقّ).
المسألة ليست في الأشخاص فحسب، بل الدولة نفسها اليوم، بمؤسساتها وأجهزتها، أصبحت «ترى» بعين النظام الدولي وليس بعينها الخاصة (حتى نستعير تعبير جايمس سكوت)، وهي تفهم أن علّة وجودها هي في تنفيذ المقررات والأوامر «الدوليّة». يكون البلد مشتعلاً في الشمال والجنوب في آن، والحدود تخترق والمعارك تجري والناس تموت، ولكن الدولة لا ترى الا الأجندة التي وضعت أمامها ولا مهمة أخرى. أنا متأكد أنهم سيكونون وسط ورش عملٍ يموّلها صندوق الأمم المتحدة، عن التنمية والجندر، حين تندلع الحرب.
لا يوجد بلدٌ في العالم تأخذ كلمة «القرارات الدولية» فيه هذه الصفة السحرية، وتعلو فوق المصلحة الوطنية وأمن الناس والإرادة الشعبية. حتى الجيش قد أصبح فعلياً «قوة عسكرية خاصة» لمن يموّلها ويجهّزها، أو متعاقد، يحدّد مهامه «المجتمع الدولي». هذه الأمور تظلّ كلاماً حتى نختبر «حالة الاحتلال» الفعلية ونشعر بها قريباً، وتبدأ هذه النخب بتنفيذ مهامها واستكمال أهداف الحرب على لبنان ، وهي لا يمكن أن تمرّ إلا عبر قمع اللبنانيين.
كنت أقول لأحد الزملاء منذ فترة، وهو لم يصدّقني، إنه يجب أن نأخذ في الاعتبار أننا قد لن نتمكّن في المستقبل القريب من الكتابة كما في الماضي (أو يصبح عليك أن تخبّئ الكلام عن الحكومة في مقالٍ عن الكازاخ). الحرية النسبية التي كنا نمتلكها كانت نتاج توازن قوىً معيّنٍ، وليس بسبب ليبرالية المؤسسة، والجوّ قد أصبح محضّراً لإعادة تعريف الممنوع والمباح، وقد نكون أول الضحايا.
إن تحقّق ذلك السيناريو، بالمناسبة، أرجو أن لا تتوقّعوا مني شيئاً كثيراً؛ أنا بصراحة لا أنوي أن أدخل السّجن من أجل «الأخبار» (لا سنّي يسمح ولا راتبي يستحقّ). ولكن أن ترغب في شيءٍ وأن تحصل عليه هما أمران مختلفان للغاية، وأنا متأكّد من أن هؤلاء الناس الذين عيّنوا لحكمنا لا يعرفون بماذا قد تورّطوا. لا أقصد ذلك بمعنى التعاطف، هم قد اختاروا أن يكونوا وكلاء الخارج إثر حربٍ شنّها على بلدهم، وأعتقد أن مكانهم في التاريخ سيكون سيّئاً للغاية. ما أقصده هو أنك لا تحتاج إلى أن تكون خبير سياسةٍ لكي تفهم عواقب ما يفعلون، جلّ ما فيك فعله -وسط يوميّات البلد المستباح - هو أن تحاول أخذ مسافةٍ آمنة، وتراقب أين سيصل هذا السيرك.